ماذا بعد سقوط الوعود الدولية بقيام دولة فلسطينية مستقلة؟
– كاتب ومحلل في الشؤون الأوروبية والدولية
يقترب الموعد الذي يُفترَض فيه أنّ الحكومة الإسرائيلية ستقرر فيه ضمّ مساحات واسعة من الضفة الغربية المحتلة، وفي هذه الأثناء تعبِّر أوساط إسرائيلية عن قلق متزايد من عواقب هذه الخطوة التي ستكون نقطة تحوّل بعد مسار طويل.
لا يأتي القلق الإسرائيلي من حقيقة أنّ خطوة الضمّ تنتهك القانون الدولي، أو من أنها تنقلب على الالتزامات المنتظرة من سلطة احتلال وتتجاوز مبادئ “عملية السلام” و”خريطة الطريق” التي وضعتها الرباعية الدولية مثلاً. فما يشغل مسؤولي الاحتلال أساساً يكمن في الخشية من ردود دولية وإقليمية منزعجة من خطوة الضمّ المُرتقبة، وكذلك من كلفتها الأمنية على الأرض، وتبعاتها الإدارية والاقتصادية، وهل ستكون مجدية عموماً لسلطة الاحتلال أم لا قياساً بالوضع القائم قبلها.
يعني هذا أنّ قيادة الاحتلال لا مشكلة مبدئية لها مع ضمّ أراضٍ واسعة في الضفة الغربية؛ حتى لو أحجمت عن اتخاذ هذه الخطوة أو لو اكتفت بإعلان شكلي غير مكتملة. فالقلق الإسرائيلي الذي يسبق التنفيذ المرتقب يتعلّق بالحسابات والتقديرات فقط وليس بجوهر الفكرة.
ثمّة رسالة مؤكدة يكشف عنها التوجّه الإسرائيلي نحو ضمّ مساحات من الضفة الغربية، سواء أوَقَع هذا الضمّ فعلاً أم لم يقع؛ هي أنّ الجانب الإسرائيلي لم يكن معنياً في الأساس بقيام دولة فلسطينية مستقلة، حتى لو كانت منزوعة السلاح وغير مترابطة جغرافياً وفاقدة للمقوِّمات الاقتصادية.
يسيطر الاحتلال الإسرائيلي على كل الضفة الغربية عملياً ويحظى بدعم أمريكي جارف في ذلك، وما بقي هو الإعلان عن هذا الضمّ، بعد أن مهّدت له الحكومات الإسرائيلية طويلاً بسياسات وإجراءات وخطوات دؤوبة عبر أكثر من نصف قرن، منها مصادرة أراضي الفلسطينيين وإقامة المستوطنات عليها، وممارسة السطوة باسم الحكم العسكري المستمرّ في الضفة الغربية منذ سنة 1967.
تشمل خطة الضمّ، مثلاً، منطقة غور الأردن وشمال البحر الميت، وهي منطقة ذات أهمية استراتيجية وحيوية تشغل قرابة 30 في المئة من مساحة الضفة الغربية. عملت سلطة الاحتلال طويلاً على التضييق المنهجي على المواطنين الفلسطينيين في الغور، فلا يستطيعون التصرّف بمواردهم فيه إلاّ بصفة شحيحة للغاية. إنّ ضمّ غور الأردن (زيادة على عواقبه الاستراتيجية) يعني ببساطة أنّ أي دولة فلسطينية لن تقوم إلاّ ضمن مساحة ضيقة ومعزولة بين فكّي كماشة الاحتلال، ولن يكون لهذه “الدولة” حدود خارجية، فهذا الوادي يشكِّل حاجزاً ممتداً على طول حدود الضفة الغربية مع الأردن.
ما بقي من وعود “عملية السلام” سينتهي تماماً مع ضمّ مساحات واسعة من الضفة الغربية على هذا النحو، بالإضافة إلى المساحات التي انتزعها الاحتلال سابقاً بذرائع الاستيطان وتشييد الجدار وشق الطرق والضرورات العسكرية وغيرها، وهذه عموماً تتجاوز نصف مساحة الضفة الغربية.
من عواقب هذه الخطوة أنّ السلطة الفلسطينية ستفقد مبرِّر وجودها، فهي نشأت في الأساس سنة 1994 لتكون مجرّد مرحلة انتقالية على الطريق إلى دولة فلسطينية مستقلة خلال خمس سنوات منذ ذلك الحين. تم استدراج رافعي العلم الفلسطيني إلى نفق مظلم بلا ضوء في نهايته، وصار عليهم أن يتدبّروا شؤون إدارة الحياة تحت الاحتلال والحصار بلا موارد مستقلة.
سعت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة إلى استدامة الاحتلال وتعزيز الاستيطان وقطع شرايين الحياة عن أي دولة فلسطينية مرتقبة. ويمكن القول إنّ شعارات التفاوض والسلام المرفوعة ما كانت إلا ستاراً للمراوغة المُزمنة التي مورست مع الشعب الفلسطيني الذي وقع تكبيله وتقسيمه وإحكام السيطرة عليه بصفة مشددة. استغلّ الاحتلال الإسرائيلي “مرحلة السلام والمفاوضات” لفرض مزيد من التغييرات التي يريدها على الأرض؛ ومن ذلك أنّ الاستيطان تضاعف بنحو أربعة أضعاف خلال ربع قرن مضى، بينما تم عزل شرق القدس عن الضفة وتمزيق النسيج الديمغرافي في الضفة الغربية.
للواقع وجوهه الأخرى القاسية، ومنها سياسة الابتزاز المالي التي تمارسها حكومة الاحتلال مع السلطة الفلسطينية، مثلاً من خلال إعاقة تحويل أموال الجباية الضريبية رغم أنها أموال فلسطينية أساساً. تنشأ أزمة متجددة كل شهر بشأن هذه الأموال، وتستقطع سلطات الاحتلال بعضها بذرائع شتى. لن يؤدي قيام “دولة فلسطينية” ضمن هذه الشروط إلى أي استقلال اقتصادي، فهذه “الدولة” ستكون كياناً فاقدا لأبسط شروط الاستقلال والسيادة، وستواجه إملاءات مصيرية تتعلّق بمعيشة شعبها. وهي ستكون بالأحرى دولة عاجزة عن حماية مواطنيها، فكلّ سلاحها مطلوب منه أن يتوجّه إلى القمع الداخلي ومنع الثورة على الاحتلال، وليس لصدّ الانتهاكات المتواصلة التي تقوم بها قوات الاحتلال على الأرض.
سواء أأقدمت حكومة نتنياهو- غانتس على قرار ضم أراضٍ واسعة من الضفة الغربية أم لم تفعل؛ فإنّ الرسالة وصلت بوضوح، وفحواها أنّ الجانب الإسرائيلي لم يكن معنياً أساساً بأي عملية سلام مفترضة أو بأي مفاوضات جادّة، وأنه سعى بشكل دؤوب إلى فرض التغييرات التي يريدها على الأرض يوماً بيوم بلا كلل، ولم تكبحه انتقادات المجتمع الدولي وبلاغاته اللفظية المتلاحقة؛ ومنها قرارات وتقارير وتحذيرات صادرة عن الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي ومحكمة العدل الدولية ومجلس حقوق الإنسان والاتحاد الأوروبي وهيئات أخرى. إنها نهاية غير سعيدة شارك في إنتاجها المجتمع الدولي الذي تراخى طويلاً مع احتلال عسكري مزمن، ولم يجرؤ على اتخاذ أي خطوة ذات طابع عقابي أو رادع حتى الآن.
ينبغي الاعتراف بأنّ “عملية السلام الشرق الأوسط” التي انطلقت في مدريد سنة 1991 ومرّت بمحطّات متلاحقة، ومنها وعود الرباعية الدولية بإقامة “دولة فلسطينية مستقلة قابلة للحياة ومتواصلة جغرافياً”، تُشبِه مسيرة جنائزية ممتدّة للحقوق والعدالة والقانون الدولي. فالحقيقة الماثلة للعيان أنّ حكومات الاحتلال المتعاقبة لم ترغب بأي استقلال فلسطيني أصلاً، ولم تجرؤ أي حكومة إسرائيلية حتى الآن عن التلفّظ بمصطلح “الشعب الفلسطيني” أساساً لأنّه يتعارض مع الأيديولوجيا الصهيونية والعقيدة الاستيطانية. انتهى المشهد إلى واقع محبوك بعناية من السيطرة والقهر، طوّرت فيه سلطات الاحتلال الإسرائيلي نظامها الخاصّ من الأبارتهايد والمعازل السكانية (بانتوستانات) وأنظمة الفصل والتحكّم والرقابة والاضطهاد، تحت سمع العالم وبصره.