بلا تأشيرة – الحلقة الثانية
[tie_full_img][/tie_full_img]
أمين أبو راشد
– ناشط فلسطيني مقيم في هولندا
– ناشط فلسطيني مقيم في هولندا
في تمام الساعة الخامسة مساء يوم الثلاثاء 28 أكتوبر، انطلقت سفينة الأمل باتجاه غزة، وهي تحمل معها 27 متضامناً أوروبياً وعربياً وفلسطينياً، في تحدٍ صارخ للتهديدات الاسرائيلية.
عند الإبحار بدأت ذاكرتي تتنشط، فتذكرت جدي أبوأحمد رحمه الله، عندما كان يقص علينا ونحن صغار حكايات عن فلسطين، وعن قريتنا، وعن البيارات والكروم، وكم كان يقرب مخليتنا من الوطن، وكان حب فلسطين يزداد في قلبي يوماً بعد يوم.
فجدي أبو أحمد الفلاح الفلسطيني، الذي هجر من أرضه في عام 1948، وكان عمره آن ذاك 29 سنة، بلباسه الفلسطيني التقليدي، شروال وقنباز وحطة وعكال، يروي لنا أحداث النكبة، وكيف كانوا يدافعون عن قريتهم ضد الإنكليز، ثم ضد الإسرائيليين، ويروي لنا كيف تم تهجيرهم من قريتهم، وكيف عانوا مأساة الهجرة، وذكرى الوطن، ودائماً كان يقول: ما في أحلى من الوطن.
ما أجمل الوطن وهو في الذاكرة، وهل ستكون هكذا الحقيقة بعد 60 سنة من النكبة؟ وبعد حصار ظالم على غزة؟ تبحر السفينة ونحن نقترب من الوطن، إنها مسافة لا تتجاوز 350 كم، ستقطعها السفينة ب 15 ساعة، كان البحر هائجاً، والجو ماطراً، والرياح شديدة، والسفينة تترنح، مرة إلى اليمين ومرة إلى اليسار، وبدأ دوار البحر يصيب الركاب، الواحد تلو الآخر، الجميع مستلقٍ على الأرض، فالقارب صغير لايوجد فيه سوى ستة أماكن للنوم، أما باقي الركاب وهم 21 شخصاً؛ ينامون على الأرض، في الممرات، إنها فلسطين، والذي قرر أن يركب البحر وضع في حساباته بأنه في رحلة مخاطرة، سواء بسبب سوء الأحوال الجوية، أو بسبب التهديدات الإسرائيلية للسفينة.
ما أطول الرحلة، والساعة تسير ببطء، ولقد نظرت للساعة مئات المرات، هانحن في عرض البحر في المياه الدولية، وكان القبطان (ديرك) يحدثني ويقول: لا تستطيع إسرائيل أن توقفنا في المياه الدولية، فهذا يعتبر قرصنة بحرية، وإذا أرادت البحرية الإسرائيلية أن تعترض السفينة، فمن المحتمل يكون في نقطة دخولنا من المياه الدولية إلى المياه الإقليمية الفلسطينية، أي: قبل موعد وصولنا بساعتين، أي أن مرحلة الخطر ما زالت أمامنا، وهذا معناه أننا نبحر تقريبا 13 ساعة؛ حتى نعرف هل سنتمكن من الدخول إلى فلسطين دون اعتراض إسرائيلي محتمل؟.
وكان أمام القبطان شاشة ملاحة، تظهر فيها السفينة، وهي عبارة عن نقطة وميض داخل البحر، ومرسوم خط للمياه الإقليمية الفلسطينية من شمال فلسطين إلى جنوبها، وبدأت أمعن النظر في سير السفينة، ومتى سنقترب من المياه الإقليمية؟.
الساعة الآن تشير إلى الخامسة إلا عشر دقائق، إنه وقت صلاة الفجر، جهزت نفسي وصليت الفجر وأنا جالس على الأرض، لأن السفينة كانت تترنح، ولا يمكنني أن أقف أبداً، عدت إلى القبطان وإذا بالسفينة تظهر بالقرب من شريط المياه الإقليمية، الآن بدأ التحدي، نحن الآن أمام الامتحان والاحتمالات: هل سنمضي إلى فلسطين؟ هل سنمنع؟ هل سنعتقل؟ يدق جرس الهاتف من البحرية الاسرائيلية على القبطان، والصوت مسموع للجميع، وبدأت الأسئلة: من أنتم؟ ومن أين أتيتم؟ وإلى أين أنتم ذاهبون؟ كم عدد الركاب؟ ما هي جنسياتهم؟ ماذا تحملون على السفينة؟ ما هو رقم تسجيل السفينة واسم المالك؟ والقبطان يجيب على الأسئلة، ثم تتوقف الأسئلة، وينتهي الأمر، القبطان يمضي في طريقه باتجاه غزة، بدأ شروق الشمس، واتضحت الرؤية، وخف دوار البحر، واستقرت السفينة في السير دون ترنح، إننا في المياه الإقليمية الفلسطينية، وعلى بعد ساعتين فقط عن غزة، صعدنا جميعاً على ظهر السفينة من الأعلى، هواء جميل عليل، وكأني أشم رائحة الوطن، لم أرَ بعد شيئاً، فما زالت العين لا تستطيع رؤية الوطن.
وإذ بقارب حربي إسرائيلي بدأ يقترب من السفينة، ويناور مرة خلفنا، ومرة عن اليمين، ومرة عن الشمال، وبدأت تظهر البوارج الإسرائيلية من بعيد، بدأنا بالتكبير والتهليل، وبدأ الأوروبيون معنا يصورون المنظر بكاميرات، استمر هذا الموقف ساعة تقريباً، ثم انسحب الزورق الحربي، ولم نعد نراه أمامنا، بقيت ساعة ونصل إلى غزة، يا الله.. انتهى كل شيء، أخيراً سأصل إلى شواطئ الوطن، بدأت أرى مداخن المعامل في مدينة اسدود، وبدأت الرؤية تتحسن، نعم إنها زوارق الصيادين الفلسطينيين، بدأت أرى أيديهم تحيينا، وبدأت أصرخ: السلام عليكم.. السلام عليكم.
وبدأ شاطئ غزة يظهر واضحاً جلياً، هذه هي المرة الأولى بحياتي التي أرى فيها الوطن، لم أكن أصدق عيني، قفزت من السفينة، وكنت أول من قفز، هاأنا أضع قدميّ لأول مرة، وأخيراً تحقق حلمي برؤية الوطن، وها أنا أدخل الوطن بلا تأشيرة.. بلا موافقة… ورغماً عن الاحتلال.