23/12/2024
أمين أبو راشدفلسطينيّات

بلا تأشيرة – الحلقة الثالثة

[tie_full_img][/tie_full_img]
أمين أبو راشد
– ناشط فلسطيني مقيم في هولندا

ما إن وطأت قدماي شاطئ الوطن، إلا وبدأت أشعر وكأني رجل آخر، رجل سار على درب الوصول إلى الوطن لسنوات طويلة، وقفت مدافعاً عن فلسطين في المسيرات، والمظاهرات، والمؤتمرات، أنادي بالحق الفلسطيني، والتمسك بالثوابت، وبأن الأرض الفلسطينية هي أرضنا، لن نتخلى عنها، ولن نقبل بالتعويض، أو بقبول أي بديل آخر.
وقفت أمام شاطئ غزة الصامدة، هذا القطاع الذي صمد على مدار السنتين في وجه الحصار، رغم الإغلاق والحصار والتشديد، فما زال هذا القطاع الأبي قلعة صامدة في وجه الاحتلال الغاصب البغيض.
لم أصدق نفسي أني في فلسطين، انتابني شعور عجيب حتى حينما سألتني وسائل الإعلام، لم أعرف ما أقول، حلم كان بالنسبة لي فلسطين، لكنّ الشعور وأنت في وطنك يختلف ولا يُوصف”.
كنا نعيش مع أهلنا المحاصرين في أوروبا، بقلوبنا، وأرواحنا، وها أنا الآن أقف بكل عزة وكرامة على شاطئ مدينة غزة.. حلمي بدخول فلسطين تحقق أخيراً.. قلبي يخفق بسرعة، وماذا بعد!.. هل انتهى الحلم؟.. أم أني أبدأ مرحلة جديدة..
نعم جئنا متضامنين على ظهر سفينة الأمل؛ لنساهم في كسر الحصار، ولننقل معاناة القطاع للعالم، لكن الأمر بالنسبة لي مختلف جداً، فأنا ابن هذا الوطن الذي عشت وتربيت في مخيمات اللجوء، وترعرعت على حكايات الوطن وحلم العودة يوماً إلى فلسطين.

استقبال حار من أهل غزة ملأ مبلالبا
التف من حولنا المستقبلون، الجميع يسلم ويقبل ويعانق، كـأني أعرف أهل غزة منذ سنوات، كأنهم أهلي وأقربائي – وهم كذلك-، عناق الإخوة وعناق الأحبة، جميع من قابلنا على الشاطئ يعانقنا عناق الأبطال، ويثمن لنا هذا الدور الكبير في الوصول بحراً إلى غزة، رغم أنف الاحتلال.
بدأت أستعيد توازني، حان الآن وقت العمل؛ للاطلاع على معاناة القطاع الصامد، الذي قدم مثالاً في الصمود، ومثالاً في العزة والكرامة، وبقي الشعب الفلسطيني شامخاً أبياً في مواجهة الحصار.
أنزلنا من السفينة شحنات الأدوية، التي أحضرناها معنا من أوروبا؛ لنساهم – ولو جزيئاً- في دعم القطاع الصحي.
ركبنا الباص… والجميع يحيينا، ويلوح بالأيدي… وكان يرافقنا موكب أمني كبير لحراسة الوفد.. وصلنا إلى مكان الاستراحة.
ذهبنا للاستراحة عدة ساعات، ولكن لم يستطع أحد منا أن يرتاح، فالرحلة قصيرة، والساعات قليلة؛ لذا أكتفينا جميعاً بنصف ساعة.

مشفى الشفاء
قمنا بتسليم شحنة الأدوية لإدارة المشفى، وبصحبة وزير الصحة، تجولنا داخل المشفى؛ لنرى آثار الحصار الظالم على الجانب الصحي، أين هي حقوق الإنسان؟ وأين هو القانون الدولي؟ هذه المفاهيم التي درسناها في الغرب بأنه لايسمح قانونياً بمنع وصول المواد الطبية والمساعدات الإنسانية للمدنيين.
نعم هذه إسرائيل الطفل المدلل، تنتهك وتخرق القوانين، دون أي رادع، ولاحظنا أن كثيراً من الأجهزة الطبية متوقفة عن العمل؛ بسبب عدم وجود قطع الغيار، وكثير من الأدوية الضرورية والأساسية غير متوفرة، لا في المستشفيات، ولا في الصيدليات، ورأينا كثيراً من الأقسام توقفت عن العمل أصلاً”.
حتى الآن: فارق الحياة أكثر من 280 مريض، منع عن بعضهم الدواء، ومنع عن بعضهم الآخر السفر إلى خارج القطاع.
يا الله من يتحمل مسؤولية هذه الجريمة، مرضى على فراش الموت.. إما الدواء أو الموت.. وإما السماح بالسفر لتلقي العلاج أو الموت… من الصعب جداً على المرء أن يرى هذه المشاهد، وقلبي يتفطر ألماً على حال المرضى وهم على الفراش، ينظرون إلينا وقلوبهم تشتكي إلى الله تعالى من ظلم القريب والبعيد، من ظلم من حاصر القطاع، أو ساهم في في حصاره، أو أغلق المعابر، وللأسف بأيدي عربية، وبصمت عربي مطبق.
وقد هالني منظر مرضى السرطان وهم ينتظرون الموت، لأن العلاج الكيماوي ممنوع منعاً باتاً من الدخول للقطاع.
كنا نعرف بعض التفاصيل عن قطاع غزة قبل الزيارة، لكن خلال زيارتنا، واطلاعنا على أحوال المستشفيات، وبعض الحالات والمخيمات، وجدنا أن هناك أزمة حقيقية، وغزة عبارة عن سجن كبير، يحتجز به أكثر من مليون ونصف فلسطيني، مُنع عن غزة كل شيء، وهذا يشكل أزمة حقيقية وكبيرة.
إن الاحتلال الإسرائيلي يرتكب جريمة حرب بكل المقاييس، جراء استمرار حصار ما يزيد عن مليون ونصف المليون مواطن في قطاع غزة، إن الوضع في غزة كارثي ولا يحتمل.
ودعنا المشفى وآهاتنا لا تفارقنا من هذا الوضع الأليم.

لقاء الأخ القائد أبو العبد
وجاء لقاء الأخ القائد صاحب الهمة العالية الأمام الخطيب، الذي قدم مثالا جديداً للقائد، وللرئيس، والمسؤول، بدون مقدمات ولاشكليات، إنه ابن المخيم، لم تبدله القيادة، ولم تزده إلا رفعة ومنزلة في قلوب شعبه وأحبابه، إنه رئيس الوزراء الفلسطيني: أبو العبد كما يحب أن يسمى.
دعانا إلى مكان عمله؛ ليقلدنا وسام كسر الحصار، سلمت عليه، فأخذني وضمني إلى صدره، وقال لي: كيف حالك يا أمين؟ وكيف حال إخواننا الفلسطينيين في أوروبا؟.
وقُـلِّـدت أنا وأفراد سفينة الأمل أوسمةَ شرفِ كسر الحصار من هذا القائد البطل المقدام.
وعهدي مع الأخ أبوالعبد ليس حديثا، فقد دعوناه في الأمانة العامة لفلسطينيي أوروبا، إلى مؤتمرنا الخامس في هولندا، ويومها منعت هولندا وصول أي أحد من الحكومة الفلسطينية، ولكن كانت مشاركته عبر الأقمار الاصطناعية؛ ليخاطب شعبه، وجمهوره، وجاليته الفلسطينية، بصوت وصورة، ورغم الحصار، وصلت رسالة فلسطين إلى أبناء فلسطين في المهجر.
نعم أنا الآن أقف معه، أعانقه، أتبرك بالصفوة أصحاب الهمة والثبات، شعب صامد أبي كشعبنا في غزة لابد أن تكون له قيادة أبية ثابتة، تقدم مثالاً إيجابياً في القيادة، ليست كالقيادات التي رأيناها أو سمعنا بها.
زيارات ميدانية
قمنا بزيارة المخيمات الفلسطينية والمدارس، ومؤسسات المجتمع المدني، والجمعيات الخيرية، ودور الأيتام والمشافي؛ لعمل تقارير عن الأوضاع التي تعانيها من جراء الحصار.

واقع غزة الأليم
إن ما شاهدناه في غزة من حصار، يعتبر “جرائم حرب حقيقية”، إنّ الاحتلال يمنع كل شيء عن غزة، إنّ الناظر للحصار من الخارج تكون عنده صورة مجملة عنه، لكن الحصار من الداخل يختلف.
نحن في الخارج كنا ننظر للحصار بصورة إجمالية، لكننا الآن بدأنا ننظر لدقائق الأمور، لتفاصيل معاناة أهلنا داخل القطاع، وهذا سيغيِّر نفسيتنا في التعاطي مع موضوع الحصار، نعاهد أنفسنا أن نزيد من وتيرة النشاط، أن نعود بنفسية مختلفة، نعاهد أنفسنا أن نكون سفراء لكسر الحصار.
أتينا متضامنين، ونرجع الآن بمسؤولية أكبر.. نرجع الآن سفراء للحصار، ونمتلك صورة تفصيلية أكبر عن الوضع في القطاع، وسوف نحمل كل هذه التقارير، والصور، والأوضاع المأساوية للمجتمع الغربي، وخاصة في القارة الأوروبية؛ لننقل هذه المعاناة، ونضع المسئولين أمام مسؤولياتهم، ولنقرع الجرس أمام المجتمع الدولي الذي أصبح لا يرى ولا يسمع شيئاً عما يحدث.
لا بد للعالم أن يقف مع هذا الشعب المظلوم، وأن يساهم في كسر الحصار، وإلا فإنهم سيكونون مشاركين في هذا الحصار.
كما استُقبلنا بحفاوة، وُدعنا بحفاوة، وحضر رئيس الوزراء بنفسه لوداعنا، وركب السفينة، وسار بمحاذاتنا، نلوح له بأيدينا ونسلم عليه وعلى المودعين، حتى بدأت تغيب الصورة عنا شيئاً فشيئاً، نحن نودع غزة الآن، وعلى أمل أن نراها من جديد وهي تعيش بأمان وحرية كباقي شعوب العالم.
أغادر وكلي أمل في العودة من جديد إلى أرض الوطن، براً، أو جواً، والمرة القادمة إلى القدس إن شاء الله وبلا تأشيرة.. بلا موافقة.. بلا احتلال.