مواسم القضية الفلسطينية
قد يتفق الخبراء في النزاعات وتاريخها حول العالم بأن للقضية الفلسطينية والصراع حول أرض فلسطين خصوصيات وسمات تنفرد بها دون سائر النزاعات في جنبات المعمورة، فهي التي تمتد اشتباكات طرفيها في أعماق التاريخ وعلى اتساع الجغرافيا، وفيها أبعاد سياسية ودينية وقانونية واقتصادية وثقافية وحضارية ومناح أخرى، وتكاد تشترك معظم دول العالم في التأثير في مجرياتها وإن بدرجات متفاوتة.
فالمشاهد الجارية أحداثها في فلسطين وحولها بدأت فصولها تُرسم منذ أواسط القرن التاسع عشر بشكل متصل ودون انقطاع إلى يومنا هذا. ونسجل العلامة الزمنية الفارقة يوم أكد الصهاينة في مؤتمرهم الأول في مدينة بازل السويسرية عام 1897 سعيهم لاتخاذ فلسطين وطنا قوميا لليهود في العالم.
وبدأ الصراع في التفاعل الميداني بأبعاد شمولية مع اندلاع الحرب العالمية الأولى 1914، وتكاثرت معها الأحداث وتنوعت حتى تبعتها حرب كونية ثانية، وما حملته الفترة بينهما من رسم لخريطة سياسية جديدة في منطقتنا العربية، بل وتوزيع جديد للسكان انطلاقا من فلسطين باتجاهين متعاكسين لفئتين من البشر.
وخلال هذا التدافع أصبح تاريخ المنطقة يُعرف بعلامات ووقائع اعتبرها كلا الطرفين مهمة حسب قصته المسرودة وادعائه، وتنوعت بعناوين مختلفة وكثيرة، من قبيل اتفاقية سايكس بيكو ووعد بلفور والانتداب البريطاني والهجرات اليهودية والثورات الفلسطينية والنكبة بمقدماتها كقرار التقسيم ونتائجها المتمثلة بالتهجير وحال اللجوء. وكذلك العدوان الثلاثي ونكسة عام 1967 واحتلال القدس ويوم الأرض وأحداث لبنان عام 1982 وانتفاضة الحجارة وانتفاضة الأقصى وهكذا.
وحيكت الرزنامة السنوية بوقفات زمنية يعتبرها كل طرف مهمة ويستخدمها أداة هجوم على الطرف الآخر على الصعيد المحلي والإقليمي والدولي، وفي مختلف المجالات السياسية والدبلوماسية والثقافية والقانونية وغيرها، وأضحى ذلك عادة سنوية غير منقطعة.
إلا أن المناسبة الأبرز والأوضح على الإطلاق في هذا السياق، والتي تأخذ شكلا دراميا هي ذكرى نكبة فلسطين في منتصف مايو/أيار وما يقابلها من إعلان قيام الكيان الصهيوني المزعوم، وينقسم العالم بين مواس للفلسطيني بذكرى ضياع أرضه ومهنئ للصهيوني بإنجازه.
وهنا نقرر أن الذكريات والتوقف عندها عادة بشرية دارجة ابتداء من الفرد بمحدوديته إلى أن تصل الدول وما يشكلها. ولكي يأخذ أثر الذكرى بُعده الأقصى يقوم أصحابها برفع وتيرة التوقف عند أرقام معينة مرتبطة بالسنة ذاتها في معاودة الذكرى للتنويع في تناول مضمونها وإعادة إحيائه والوصول إلى إنفاذ المُراد، كالذكريات التي تصادف عشر سنين وعشرين سنة أو ما يعرف باليوبيل الفضي (خمس وعشرين سنة)، أو الذهبي أو الذكرى المئوية وهكذا. وقد شاهدنا كيف أحيت الدول مئوية اندلاع الحرب العالمية الأولى بمؤتمرات وأنشطة. وهو ما يوفر منصة تسهل لأصحاب القضايا التذكير بمطالبهم ويجعل التنبه لهذا أكثر نفاذية.
على الصعيد الفلسطيني، وبناء على المقاربة بين المناسبات وخصوصية المعاودة الزمنية في أوقات معينة واستخدامها سلاحا في مواجهة المعتدي في طريق استعادة الحق، نسجل أن الأعوام الخمسة القادمة، التي بدأت منذ العام المنصرم 2014 وتمتد إلى نهاية 2018، تزخر بمناسبات في غاية الأهمية مقرونة بذكرى رقمية تُحدث أثرا فارقا لو تم استثمارها. ولا يكاد يخلو عام من هذه الأعوام القادمة من عدة مناسبات في هذا الجانب.
ولاستدعاء التاريخ بطرق مختلفة فوائد عظيمة تدخل في دائرة الإستراتيجي من الأفعال في الجسم الوطني الفلسطيني، يأتي على رأسها تقديم مدرسة مفتوحة للأجيال الفتية وتعريفها بأبجديات الصراع وجذوره وماهية القضية، ما يعطيها مادة وفيرة تستخدمها ضمن الوسائل الحديثة التي لم تكن متوفرة في تلك الحقب وقت حدوث الوقائع. من قبيل ما يمكن أن يظهر من حقائق في مخزون التاريخ تسمح بملاحقات للدول والشخصيات التي أجرمت بحق الشعب الفلسطيني باستخدام أدوات قانونية أُسست حديثا.
ومما يزيد في تعظيم الفائدة من استحضار التاريخ، هو ثورة تكنولوجيا المعلومات الذي تفجرت في هذا الزمان وذوبان الحدود الجغرافية بين الدول بشكل عملي، والقفز عليه لمصلحة تحول العالم إلى مجتمع واحد منفتح على بعضه ويتواصل بدون موانع، وهذا يجعل الوقوف على أحداث التاريخ وتوظيفها لا حدود له في كل أنحاء العالم ودون الحاجة للانتقال والوجود الفيزيائي لصاحب الحق. تجلى ذلك واضحا أثناء الاعتداء الصهيوني على قطاع غزة صيف العام الماضي 2014، عندما تنبه العالم للجريمة والأحداث وجرى توثيقها وصارت حدثا كونيا.
وفي هذا أيضا سنجد في الرجوع لأحداث خلت فرصة للتقييم وأخذ العبر والتوقف عند الأخطاء. وقد يكون مناسبة لإنصاف شخصيات تعرضت للظلم والتهميش، فالقراءة المتأنية للتاريخ ستحدث اكتشافات وتخرج خبايا مهمة. وهذا يلفت النظر لأهمية وحيوية جانب التوثيق ووضع الأمور والحقائق في دائرة عدم الضياع، ويجعلنا نستدرك أمورا يمكن أن تضيع في السنوات المقبلة إذا لم تستثمر.
وهنا نسجل كيف تنبه العديد من الباحثين والخبراء إلى أهمية توثيق شهادات جيل النكبة الذين نفقدهم سنة بعد سنة وأضحوا حوالي 2% من عدد جموع الشعب الفلسطيني.
بالعودة إلى التاريخ الفلسطيني، فإن إحياء الذكريات أخذ على الدوام دورا محوريا في بقاء القضية حية عبر الأجيال، وفي استمرار المفردات المهمة من دون تغيير بالعموم، بل وساهم في صقل الهوية الفلسطينية الوطنية بأبعادها القومية العروبية ووعائها الإسلامي للمسلمين والمسيحيين الفلسطينيين على حد سواء.
ونعتقد أن استمرار الشعب الفلسطيني في إبقاء هذا التوجه في استحضار التاريخ بصور مختلفة، سيؤثر في بعض مجريات الحاضر وسيخلق واقعا جديدا يرسم خريطة مستقبله ممهدا لاستعادة حقوقه، ويصبح هذا في دائرة الوجوب الذي لا مفر منه، إذا ما لاحظنا أن كثيرا من الدول المؤثرة في المائة سنة الأخيرة ما زالت تتحكم في مقدرات المنطقة العربية ولديها نفاذية على مجريات الأحداث بكل الأبعاد في العالم، وما يعني ذلك من انعكاس على الصراع في فلسطين.
كمثال على ذلك، عندما نتوقف عند ذكرى وعد بلفور الذي أعطى بموجبه وزير الخارجية البريطاني في نوفمبر/تشرين الثاني من عام 1917 وطنا قوميا لليهود في فلسطين، ونجد عشية الذكرى المئوية لإطلاق الوعد، بأن النفوذ البريطاني ما زال حاضرا مع علاقات إستراتيجية مع الكيان الغاصب، فإن استحضار هذه الذكرى برقمها اللافت يعني أن صاحب الحق ما زال يطالب بحقه، وأن بالإمكان التداول في المضامين بملاحقة بريطانيا سياسيا وقانونيا ومحاولة تضييق مساحة دعمها للكيان الغاصب.
ومما يزيد أثر مسار كهذا هو المشهد الصعب وانسداد الأفق على صعيد القضية بشكل حاد، ما يجعل التفكير خارج الإطار المألوف لتحقيق شيء من الإنجازات واجبا، فوضع الضفة الغربية وقطاع عزة وأراضي فلسطين 48 وأوضاع الجوار العربي والانهيار في المنظومة السياسية العربية بالعموم، والتنازع الداخلي الفلسطيني، يفرض على الشعب الفلسطيني وقطاعاته الحية خلق فرص وفتح مساحات حركة لإبقاء القضية حية انتظارا لحدوث متغيرات محلية وإقليمية ودولية تؤثر على القضية إيجابا.
ونعتقد جزما أن جموع الشعب الفلسطيني وشتاته في العالم، بكل ما يعني أثر العامل الجيوسياسي من توفير ساحات وبيئات خصبة، يمكنها أن تُحدث تحولا نوعيا إستراتيجيا في حال الجمود وتخلق فرص تغيير في معادلة الصراع. وهذا ما يتعارف عليه بالعمل الشعبي الفلسطيني والبُعد الأهلي للعطاء الفلسطيني.
وستجد الجاليات الفلسطينية في جميع أنحاء العالم مادة مهمة من المناسبات الوطنية لمقارعة المشروع الصهيوني في عصبه وفي مساحته، مما يشاغله بالبعد الإستراتيجي، ويلجمه عن ترسيخ ما يريد من دون رادع. وفي الجانب الفلسطيني الداخلي فإن هذا من شأنه إبراز الإنجاز الوطني الفلسطيني وتمجيد الأفعال وتخليد الشخصيات والرموز والعمل الجمعي الفلسطيني عبر التاريخ.
وعليه، فإننا ننبه في هذه السطور إلى مناسبات مهمة ولها دلالة في رسم القضية عبر التاريخ خلال السنوات القادمة، وبعضها قد يحتاج لضخامته إلى سنوات لإنفاذ مشاريع مفترضة لإحيائه. ونأخذ دورنا في ذكر هذه المناسبات لوضع الجميع أمام مسؤولياته.
فما زلنا نعيش أجواء ذكرى مناسبات مرت عام 2014، ابتداء من ذكرى مائة سنة على اندلاع الحرب العالمية الأولى وما نتج عنها من تأثير مباشر على القضية. وفي ذات السياق، وخلال العام الماضي أيضا، وافق مرور سبعين سنة على نهاية الحرب العالمية الثانية التي أنتجت رغبة أوروبية جامحة بالتكفير عن “مظلمة اليهود” مما سهل شرعنة إقامة كيان لهم في فلسطين. ومرت أيضا خلال العام الماضي ذكرى خمسين سنة على تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية.
وهذا العام، نعيش أجواء ذكرى خمسين سنة لانطلاقة حركة فتح. وفي العام القادم، ننتظر ذكرى مائة سنة على اتفاقية سايكس بيكو التي رسمت الخريطة السياسية الحديثة للمنطقة العربية. وذكرى ستين سنة على العدوان الثلاثي على مصر (وفي ثناياها مجزرة كفرقاسم في فلسطين)، وأربعين سنة على أحداث يوم الأرض. وعشر سنوات على انتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني في الضفة وغزة، وهي التجربة الأولى التي انخرطت فيها معظم الفصائل الفلسطينية.
ويزخر عام 2017 بالمناسبات الحيوية، تبدأ بمرور مائة وعشرين سنة على انعقاد المؤتمر الصهيوني الأول بقيادة تيودور هرتزل. ثم ذكرى مائة سنة على وعد بلفور وسبعين سنة على القرار 181 الذي قضى بتقسيم فلسطين في عام 1947، وخمسين سنة على نكسة 1967 وسقوط مدينة القدس ودرتها المسجد الأقصى، والذكرى الثلاثين على اندلاع انتفاضة الحجارة ومعها انطلاقة حركة حماس أواخر عام 1987.
أما عام 2018 ففيه ستمر ذكرى مرور مائة سنة على انتهاء الحرب العالمية الأولى وما نتج عنها، وفي العام نفسه وقوع فلسطين تحت الانتداب البريطاني الفعلي على أرض فلسطين بما عناه من الإعلان الأولي لحدوث نكبة فلسطين. ثم ذكرى سبعين سنة على نكبة فلسطين ونذكر معها ذكرى مذبحة دير ياسين. وسبعين سنة أخرى على إصدار قرار رقم 194 الصادر من الجمعية العامة للأمم المتحدة والقاضي بحق عودة اللاجئين الفلسطينيين، وسبقه بيوم إصدار الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. وخمسين سنة على انتصار معركة الكرامة. وعشر سنوات على العدوان على غزة أواخر 2008.
ونرصد مثالا على نجاعة الوقوف على المناسبات كأسلوب في إدامة الصراع والمطالبة بالحقوق ما قام به فلسطينيو أوروبا خلال السنوات الماضية في نسجِهم لسلسلة فعاليات عبر القارة البعيدة عن فلسطين طوال العام، ما خلق واقعا للأجيال الفلسطينية وشكل منعطفا في الأداء الشعبي الفلسطيني. وقدم نموذجا ملهما لقطاعات الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج.
واستطاع فلسطينيو أوروبا تحقيق إنجازات مهمة في هذا السياق ساهمت في خلق واقع نحو دعم القضية في الساحة الأوروبية، وكان لاستخدامها الرزنامة السنوية الفلسطينية أثرا نافذا.
ولعل أبرز مثال على أدائهم المتميز هو الانعقاد السنوي لمؤتمر فلسطينيي أوروبا الذي ربط نفسه بذكرى النكبة في مايو/أيار من كل عام، وأصبحت المناسبة حدثا دوريا يعد من أبرز الأنشطة الشعبية خارج فلسطين. واستخدموا الأرقام بشكل لافت في نشاطهم كرفعهم لشعار مؤتمرهم 2008 الذي انعقد في مدينة كوبنهاجن “ستون عاما وللعودة أقرب” والذي ترسخ شعارا تغلغل في العقل الجمعي لجموع الشعب.
واستمرارا لهذا النهج تنعقد النسخة الثالثة عشرة من المؤتمر في العاصمة الألمانية برلين في 25 أبريل/نيسان ويجتمع الفلسطينيون رافعين شعار “فلسطينيو أوروبا والمشروع الوطني الفلسطيني”.
نختم بوصف حال الشعب الفلسطيني في هذه الآونة وهو في طريقه لتحرير أرضه بوضع “الصمود” المتمثل في الحفاظ على القضية الفلسطينية حية في ظل اختلال ميزان القوة، والعمل على إيجاد ثغرات في المشروع الصهيوني للنفاذ منها، ولا بد من استخدام كافة الأدوات المتاحة وكل أبناء الشعب الفلسطيني ومن ورائهم الأمة العربية والإسلامية وأحرار العالم لتمتين حال الصمود.
ونعتقد أن البعد الشعبي واستدعاء التاريخ -بأشكال متعددة- من الأساليب المهمة في هذا المجال، فنحن نتاج الماضي الذي حمل ضياع فلسطين ونعيش الواقع بمخاضه نتيجة وجود الاحتلال ومقارعة الشعب الفلسطيني له، متطلعين لمستقبل زاهر سترسم مشاهد أيامه أحداث النصر واسترجاع الحقوق.