23/12/2024
لينا أبو بكرمنوعات

ثقافة الحرب

[tie_full_img][/tie_full_img]
لينا أبو بكر
– أديبة وشاعرة فلسطينيّة

ما هو الفارق بين جرائم الحرب  التي تدمر القيم والبيئة والعلاقات الإنسانية و بين واجب الدفاع المقدس الذي يعد حقا فطريا تفرضه قوانين الطبيعة  ؟ثم حين تكون الحاجة للحرب أمس من السلام كضرورة أخلاقية و حياتية هل ستكفي  الجريمة كذريعة لتدمير حياة الأبرياء من النساء والأطفال والملائكة ؟!

هل يحتاج العالم ليدرك من الضحية ومن المجرم ؟ من الذي يدافع ومن الذي يقتل ؟ هل الحقيقة غائبة أم مغيبة أم أن الحقيقة وحدها لم تعد تكفي لكي يتحرك الجميع من أجل حمايتها ؟  أليس مفهوما أن المجرم هو صاحب القوة وأن الضحية محرومة حتى من الدفاع عن نفسها ؟ حين يكون  المشهد هو غزة المدمرة المحاصرة المذبوحة المحرومة من أبسط أساليب العيش والأمان ، هل يكون من الصعب فعلا على الضمير أن يفرق بين حماس كرؤية مقاومة وبين الصهاينة كمشروع إبادة عرقية كما رآها المفكر اليهودي ” إيلان بابيه ”  ؟ حين يكون المشهد هو غزة التي تعيث فيها اسرائيل دمارا وخرابا و افتراسا بحجة القضاء على المجاهدين ، هل يحتاج العقل إلى حجة كي يدين مسؤولية المذنب عن تحويل البيوت والمدارس والمساجد والحارات والشوارع والملاجئ والمستشفيات إلى ميادين غارقة بالدم وصراخات الثكالى ودموع اليتامى ؟ هل هذا هو حق الدفاع عن الشرف العسكري للقاتل ؟

أي تدنيس لأخلاق الحروب هذا الذي يدفع بجيش بأكلمه ليخوض حربه مع الملائكة والعصافير بحجة ملاحقة قيادات من حماس ؟ أي ضرورة تبيح كل هذا الفتك بالأخلاق والرحمة والمشاعر والقوانين الدولية ؟ إنها معارك قذرة غير شريفة ولا تشرف سوى السفاحين و مصاصي الدماء لأنها بلا مجد ولا كبرياء طالما أن قوتها تكمن بغرورها و خيلائها الذباح ، لا بشرعيتها و كرامة أهدافها ، إنها معارك عمياء وحاقدة ومراوغة تلك التي تتذرع بفرقة مقاومة لتخرس مقاومة الضمير للتصدي لهذه المتعة المجيدة التي يمارسها الاحتلال على مرأى العالم دون اكتراث بعقله أو بعواطفه  !

غزة هي الضمير ، ومن تسقط غزة من حساباته هو كائن بلا إنسانية ،  خاصة حين يخاف من الترهيب الذي يمارسه الصهاينة على الإعلام ، فيربط مناصرة غزة بتحريض حماس على الإرهاب ؟ أية معادلة هذه لا تستقيم مع أبسط مقومات التفكير والإحساس الفطري ؟ أية استهانة بالوعي ؟ أي تشويه ؟ أي رعب نخضع له بإرادتنا ونحن لا نقوى على إشهار ضمائرنا التي تخذلنا كرايات منكسة ..ويلاه !

الشياطين التي نسهر على أحلامها الدموية بصمتنا ، هي التي ستأكلنا جميعا إن لم نتحرك لتحرير غزة من خوفنا ومن طمأنينة الغزاة ، لأن أي رضوخ للترهيب الفكري والدلالي للتعاطف مع غزة ما هو إلا تواطؤ سلوكي ليس صامتا حتى وإن بدا كذلك ، بل هو محرض ديناميكي و فاعل على التمادي والاستمتاع في الجريمة ؟

أخطر القتلة علر مر العصور هم أولئك الذين يتبنون عقيدة هتلر : ” إن انتصرت فأنت لن تحتاج إلى أي تفسير ، ولكن إن انهزمت فاختبئ كي لا تضطر إلى تفسير ما ” ، هذه هي معضلة الحروب العمياء ، الشرهة ، الفضفاضة ، التي تعطي الحق للقاتل إما بنصر يخرس الجميع أو بهزيمة لا تحرمه خيار الخرس كأداء متعجرف و هروب متعال  على أخلاق الهزيمة ، يقابله ” غضب عاجز ، واحتكار تجاري لأساليب القوى التي فصلها آدم سميث في كتابه ” ثروة الأمم ” ، لا بل إن نظرية الضحية الكريهة أو الغبية التي لا تستحق الحياة ، كما رآها ” جورج واشنطن ” تتحول وبشكل كارثي ولا معقول –  بمفهوم اليوم إلى ضحية إرهابية لا يحق لك أن تتعاطف معها!

خذ حرب الكونغو الثانية وحروب تيمور العرقية وحرب التايبينغ الدينية والحرب العالمية ومحارق الهولوكست لا بل كل حروب البشرية ،  لتفهم ما الذي يعنيه أن يخسر صحافي عينه لأنها التقطت ما لم تستطع أن تراه القذيفة العمياء؟ أو لتعلم كيف يشرب جندي نخب البطولة حين يسحق بيتا بلا نوافذ ولا حيطان ، بيتا كان يرد الطرقات المتوحشة و الرياح القارسة عن عتبة الذكريات ، و الأمسيات الراعشة ، ولك أن تتخيل أي ثقافة تنتجها هذه الحروب التي تترسخ كعقيدة خطيرة و بديلة عن عقيدة أبي بكر الصديق التي قوامها حماية الأبرياء والبيئة لضمان مواجهة عسكرية نظيفة و مكللة بالمجد فلا ” تقتلوا طفلا ولاامرأة ولا شيخا ، ولا تقطعوا شجرة …..”!

إنها حضارة السلاح ، التي بلا قيم ولا مشاعر ، وهذه حروب تجار لا حروب جنود وفرسان ،  وحين تفقد الحرب قلبها تفقد ضرورتها ومبرراتها مهما كانت مشروعة!

نعيش في زمن لا تحكمه الأخلاق إنما القوة ، ولذلك نحن جميعا في خطر وليست غزة وحدها ، لا بل إن غزة الصامدة هي نقطة الأمان الوحيدة في هذا العالم المهزوز ، المسألة تتعلق بموقفنا من الجريمة ، من الدمار ، من الضحية ، من الحرب ، من الكذب ، من اللاإنسانية ، و هي أمور تهيئ وتحضر لجيل وحشي يتعايش مع الحرب حتى لو لم يعشها ، ما يجعل كل البيوت عرضة لجرائم صغيرة هنا وهناك ، فيضع الجميع في حالة حرب مفتوحة مع الأخر حتى لو كان الآخر هو ابن الجيران!

صاحبة هذا القلم ليست من حماس ، فلست أرتدي حجابا ولست أنتمي إلى صحافة الوعاظ أو جماعة الإخوان ، ولست أدافع لا عنهم ولا عن غيرهم ، كل ما أحتاجه لكي أثبت لقلمي أنني على قيد الحياة هو أن أدافع عن عقلي وعن ضميري كي لا أتورط بالتواطئ مع ألعاب الوحوش و النصب التذكاري للحرب : التخويث على السماء!